كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأما الثاني فلأن أخبار المنجمين ما كان كاذبا منها لا احتجاج وما كان صادقا وتكررت الإصابة فيه كالكسوف والخسوف غير وارد لأنه من الحساب المعتاد لمن يتعاطى صناعة التنجيم وأخبار القرآن بالغيوب ليست كذلك وأما أخبار الكهنة فالقول فيها كما في السحر.
وأما الثالث فلأن ما في التوراة من الأخبار بالغيب إن كان كثيرا خارقا للعادة ووقع التحدي به فهو أيضا معجز وآية صدق لمن أتى به ولا يضرنا التزام ذلك.
وأما الرابع فلأنه لا يرد على من يقول وجه الإعجاز مجموع ما تقدم أصلا ومن يقول وجهه مجرد الأخبار بالغيب يقول بأن الخالي من ذلك غير معجز وإنما الأعجاز في القرآن بجملته ويكفي ذلك في غرضه والاعتراض على كون وجه الإعجاز عدم التناقض والاختلاف مع الطول والامتداد بوجهيه مدفوع:
أما الأول فلأن اشتمال القرآن على الشعر قد سبق جوابه فلا يناقض: {وما علمناه الشعر} وأما الآيتان الأوليتان فقد أجاب عنهما ابن عباس حين سأله رجل عن آيات من هذا القبيل بأن نفي المسألة قبل النفخة الثانية وإثباتها فيما بعد والسدي بأن نفي المسألة عند تشاغلهم بالصعق والمحاسبة والجواز على الصراط وإثباتها فيما عداها وابن مسعود بأن المسألة المنفية طلب بعضهم العفو من بعض والمثبتة على ظاهر معناها فلا منافاة وأما الآيتان الأخريتان فمعنى الأولى منهما: {وما منع الناس أن يؤمنوا} إلا إرادة الله أن تأتيهم سنة الأولين من نحو الخسف أو يأتيهم العذاب قبلا في الآخرة ولا شك أن إرادة الله تعالى مانعة من وقوع ما ينافي المراد فهذا حصر في السبب الحقيقي ومعنى الثانية: {وما منع الناس أن يؤمنوا} إلا استغراب بعثة البشر رسولا وهو مدلول القول التزاما والدال لا يناسب المانعية والمدلول ليس مانعا حقيقيا بل عادى لجواز وجود الإيمان معه فهو حصر في المانع العادي فلا تناقض وسيأتي لهذا إن شاء الله تعالى زيادة تحقيق وكذا لأمثاله مما يضيق عنه هذا المبحث وأما الاختلاف المذكور فليس هو المنفي في قوله تعالى: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} لأن المراد به أحد أمرين:
الأول: الاختلاف المناقض للبلاغة.
والثاني: الاختلاف فيما أخبر عنه من قصص الماضين وسير الأولين مع أمية من جاء به وعدم دراسته للعلوم ومطالعته للكتب ولا شك أنه لم يوجد في القرآن شيء من هذه الاختلافات على أن أمثال بعض ما ذكر من الاختلاف ليس بقرآن لأنه لم يتواتر وأمثال البعض الآخر اختلاف مقال لاختلاف الأحوال والمرجع إلى جوهر واحد وهو التراب في خلق آدم مثلا ومنه تدرجت تلك الأحوال وأي ضرر في ذلك وأما التكرار اللفظي والمعنوي فلا يخلو عن فائدة لا تحصل من غير تكرار كبيان اتساع العبارة وإظهار البلاغة وزيادة التأكيد والمبالغة إلى غير ذلك مما قد أمعن المفسرون في تحقيقه وبيانه وستراه بحوله تعالى وأما ما يتوهم فيه أنه من قبيل إيضاح الواضحات فليس يخلو عن درء احتمال ورفع خيال فإنه لو لم يقل فيما ذكر من الآية: {تلك عشرة كاملة} لتوهم ولو على بعد أن المراد وتمام: {سبعة إذا رجعتم} بل في ذلك غير هذا أسرار ستأتيك بعون باريك وأما قول عثمان أن في القرآن لحنا إلخ فهو مشكل جدا إذ كيف يظن بالصحابة أولا اللحن في الكلام فضلا عن القرآن وهم هم ثم كيف يظن بهم ثانيا اجتماعهم على الخطأ وكتابته ثم كيف يظن بهم ثالثا عدم التنبه والرجوع ثم كيف يظن بعثمان عدم تغييره وكيف لتقيمه العرب وإذا كان الذين تولوا جمعه لم يقيموه وهم الخيار فكيف يقيمه غيرهم فلعمري إن هذا مما يستحيل عقلا وشرعا وعادة فالحق إن ذلك لا يصح عن عثمان والخبر ضعيف مضطرب منقطع وقد أجابوا عنه بأجوبة لا أراها تقابل مؤنة نقلها والذي أراه أن رواة هذا الخبر سمعوا شيئا ولم يتقنوه فحرفوه فلزم الإشكال وحل الداء العضال وهو ما روى بالسند عن عبد الله بن عبد الأعلى قال لما فرغ من المصحف أتى بع عثمان فنظر فيه فقال أحسنتم وأجملتم أرى شيئا سنقيمه بألسنتنا وهذا لا إشكال فيه لأنه عرض عليه عقيب الفراغ من كتابته فرأى فيه ما كتب على غير لسان قريش ثم وفى بذلك عند العرض والتقويم ولم يترك فيه شيئا ولا أحسبك في مرية من ذلك نعم يبقى ما روى بسند صحيح على شرط الشيخين عن هشام بن عروة عن أبيه قال سألت عائشة رضي الله تعالى عنها عن لحن القرآن عن قوله تعالى: {إن هذان لساحران} وعن قوله: {والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة} وعن قوله تعالى: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون} فقالت يا ابن أخي هذا عمل الكتاب أخطأوا في الكتاب وكذا ما روى عن سعيد بن جبير كان يقرأ: {والمقيمين الصلاة} ويقول هو لحن من الكاتب ويجاب عن الأول بأن معنى قولها أخطأوا أي في اختيار الأولى من الأحرف السبعة لجمع الناس عليه لا أن الذي كتبوه من ذلك خطأ لا يجوز فأن ما لا يجوز مردود وإن طالت مدة وقوعه وهذا الذي رأته عائشة وكم لها من رأى رضي الله تعالى عنها وعن الثاني بأن معنى قوله لحن من الكاتب لغة وقراءة له وفي الآية قراءة أخرى وللنحويين في توجيه هذه القراءات كلام طويل ستسمعه فيما بعد إن شاء الله تعالى وأما الوجه الثاني فلأن من ذهب إلى أن وجه الأعجاز عدم التناقض والاختلاف مع الطول والامتداد يقول القرآن بجملته معجز لذلك فسلامة كثير من الخطب والشعر من ذلك وظهور ذلك كليا فيما يكون على مقدار بعض السور القصار لا يضره شيئا كما لا يخفى فتدبر وقد أطال العلماء الكلام على وجه إعجاز القرآن وأتوا بوجوه شتى الكثير منها خواصه وفضائله مثل الروعة التي تلحق قلوب سامعيه وأنه لا يمله تاليه بل يزداد حبا له بالترديد مع أن الكلام يعادي إذا أعيد وكونه آية باقية لا تعدم ما بقيت الدنيا مع تكفل الله تعالى بحفظه والذي يخطر بقلب هذا الفقير أن القرآن بجملته وأبعاضه حتى أقصر سورة منه معجز بالنظر إلى نظمه وبلاغته وإخباره عن الغيب وموافقته لقضية العقل ودقيق المعنى وقد يظهر كلها في آية وقد يستتر البعض كالأخبار عن الغيب ولا ضير ولا عيب فما يبقى كاف وفي الغرض واف نجوم سماء كلما أنقض كوكب بدا كوكب تأوى إليه كواكب أما بيان كون النظم معجزا فلأن مراتب تأليف الكلام على ما قيل خمس:
الأولى: ضم الحروف المبسوطة بعضها إلى بعض فتحصل الكلمات الثلاث الاسم والفعل والحرف.
والثانية: تأليف هذه الكلمات بعضها إلى بعض فتحصل الجمل المفيدة وهو النوع الذي يتداوله الناس جميعا في مخاطباتهم وقضاء حوائجهم ويقال له المنثور.
والثالثة: ضم ذلك إلى بعض ضما له مباد ومقاطع ومداخل ومخارج ويقال له المنظوم.
والرابعة: أن يعتبر في أواخر الكلام مع ذلك تسجيع ويقال له المسجع.
والخامسة: أن يحصل له مع ذلك وزن ويقال له إن قصد الشعر والمنظوم إما محاورة ويقال له الخطابة وإما مكاتبة ويقال له الرسالة فأنواع الكلام لا تخرج عن هذه الأقسام ولكل من ذلك نظم مخصوص والقرآن جامع لمحاسن الجميع بنظم مكتس أبهى حلل ومتعر عن كل خلل ومشتمل على خواص ما شامها سواه ومزايا ما سامها عند أهل النقد نظم إلا إياه من كل لفظ تكاد الأذن تجعله ربا ويعبده القرطاس والقلم ويؤيد ذلك أنه لا يصح أن يقال له رسالة أو خطابة أو سجع كما يصح أن يقال هو كلام والبليغ إذا قرع سمعه فصل بينه وبين ما عداه من النظم بلا ترديد وهذا مما لا خفاء فيه على الرجال حتى على الوليد وأما بيان ذلك في البلاغة فهو أن أجناس الكلام مختلفة ومراتبها في البيان متفاوتة فمنها البليغ الرصين الجزل ومنها الفصيح القريب السهل ومنها الجاري الطلق الرسل وهذه أقسام الكلام الفاضل المحمود فالأول أعلاها والثاني أوسطها والثالث أدناها وأقربها وقد حازت بلاغة القرآن من كل قسم من هذه الأقسام أو فرصة وأخذت من كل نوع أعظم شعبة فأنتظم لها بانتظام هذه الأوصاف نمط من الكلام يجمع صفتي الفخامة والعذوبة وهما كالمتضادين فكان اجتماع الأمرين فيه مع نبو كل منهما عن الآخر فضيلة ومنزلة جليلة وقد خص بذلك القرآن كما لا يخفى على ذوي الفطر السليمة ومن كان له في علم البلاغة إتقان وأما بيان إعجاز اشتماله على الأخبار بالغيب فلأنه تضمن ما يحكم العرف بكثرته من أخبار القرون الماضية والأمم البادية والشرائع الدائرة مما كان لا يعلم منه القصة الواحدة إلا الفذ من أحبار أهل الكتاب الذي قطع عمره في تعلم ذلك وتتبعه فيورده القرآن على وجهه ويأتي به على نصه ومن المعلوم أن من أتى به أمي لا يقرأ ولا يكتب صلى الله تعالى عليه وسلم مع الأعلام بما في ضمائر كثيرين من غير أن يظهر ذلك منهم بقول أو فعل كقوله تعالى: {إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا} وقوله تعالى: {ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله} والإعلان بالحوادث المستقبلة في الأعصار الآتية كقوله تعالى: {الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين} وأخبار أقوام في قضايا أنهم لا يفعلونها فما فعلوا ولا قدروا كقوله تعالى خطابا لليهود: {فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ولن يتمنوه أبدا} فما تمناه أحد منهم إلى أضعاف مضاعفة من مثل ذلك قد اشتمل القرآن عليها وأختص من بين الكتب بها حتى أن أقصر سورة فيه وهي الكوثر تشير إلى أربعة أخبار عن الغيب مع أنها ثلاث آيات (الأول) في قوله تعالى: {إنا أعطيناك الكوثر} إذا أريد به كما في بعض الروايات كثرة الإتباع (والثاني) في قوله: {وانحر} حيث أريد به كما هو الظاهر الأمر بالنحو فهو إشارة إلى اليسار حتى يمكنه الأقدام عليه (والثالث والرابع) في قوله تعالى: {إن شانئك هو الأبتر} حيث صرح ورمز بأن شانئك لا أنت أبتر لا عقب له فكان كما أخبر ولا شك عند كل عاقل أن مجموع ما ذكرنا يعجز عنه البشر وأما إعجاز موافقته لقضية العقل ودقيق المعنى فلأنه أشتمل على توحيد الله تعالى وتنزيهه والدعاء إلى طاعته وبيان طرق عبادته من تحليل وتحريم ووعظ وتعليم وأمر بمعروف ونهي عن منكر وإشارة إلى محاسن الأخلاق وزجر عن مساويها واضعا كل شيء منها موضعه الذي لا يرى أولى منه ولا أليق ولا يتصور أحرى من ذاك ولا أخلق جامعا بين الحجة والمحتج له والدليل والمدلول عليه ليكون ذلك أوكد للزوم ما دعا إليه وامتثال ما أمر به واجتناب ما نهى عنه مع إشارة أنيقة ورموز دقيقة وأسرار جزيلة وحكم جليلة ستقف إن شاء الله تعالى على الكثير منها بحيث لا تبقى في شك من رد من يقول بأن ذلك معتاد في أكثر كلام البلغاء وأنه ينتقض بالتوراة والإنجيل وبكلام الرسول الغير المعجز فأين الثريا من يد المتناول وما كل مخضوب البنان بثينة ولا كل مصقول الحديد يماني فهذه الأوجه الأربعة هي الظاهرة في إعجاز القرآن والمشهور عند الجمهور الاقتصار على بلاغته وفصاحته حيث بلغت الرتبة العليا والغاية القصوى التي لم تكد تخفي على أهل هذا الشأن حتى النساء كما يحكى أن الأصمعي وقف متعجبا من أمرأة تنشد شعرا فقالت أتعجب من هذا أين أنت من قوله تعالى: {وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين} فقد جمع أمرين ونهيين وبشارتين أي مع ما فيه مما يدرك بالذوق وبعضهم جعل المدار النظم المخصوص والباقي تابع له قائلا إن الأعجاز المتعلق بالفصاحة والبلاغة لا يتعلق بعنصره الذي هو اللفظ والمعنى فإن الألفاظ ألفاظهم كما قال تعالى: {قرآنا عربيا بلسان عربي} ولا بمعانيه فإن كثيرا منها موجود في الكتب المتقدمة كما قال تعالى: {وإنه لفي زبر الأولين} وما فيه من المعارف الإلهية وبيان المبدأ والمعاد والأخبار بالغيب فأعجازه ليس براجع إلى القرآن من حيث هو قرآن بل لكونه حاصلا من غير سبق تعليم وتعلم ولكون الأخبار بالغيب إخبارا بما لا يعتاد سواء كان بهذا النظم أو بغيره موردا بالعربية أو بلغة أخرى بعبارة أو إشارة فإذا هو متعلق بالنظم المخصوص الذي هو صورة القرآن وباختلاف الصور يختلف حكم الشيء وأسمه لا بعنصره كالخاتم والقرط والسوار إذا كان الكل من ذهب مثلا فإن الأسم مختلف والعنصر واحد وكالخاتم المتخذ من ذهب وفضة وحديد يسمى خاتما والعنصر مختلف فظهر أن الأعجاز المختص بالقرآن متعلق بنظمه المخصوص وإعجاز نظمه قد سلف بيانه وأنت تعلم ما فيه وإن كان قريبا إلى الحق وأبعد الأقوال عندي كونه بالصرفة المحضة حتى أن قول المرتضى فيها غير مرتضى كما لا يخفى على من أنصفه ذهنه وأتسع عطنه وأبعد من ذلك كونه بالقدم كما هو قريب ممن هو حديث عهد بما تقدم وسيأتي إن شاء الله تعالى تتمة لهذا الكلام من بيان اختلاف الناس أيضا في تفاوت مراتب الفصاحة والبلاغة في آياته ويتضح لك ما هو الحق الحقيقي بالقبول والله تعالى المبتغي والمسئول ولنقتصر من الفوائد على هذا المقدار وفي السبعة ما لا يحصى من الأسرار وهذا أوان تقبيل شفاه الأقلام حروف سبحان كلام الله تعالى العلام. اهـ.